Dp هل مات “كرومويل”؟.. فلنشنقه إذن! (1)
الرئيسية > سياسة > مقالات رأي > هل مات “كرومويل”؟.. فلنشنقه إذن! (1)

هل مات "كرومويل"؟.. فلنشنقه إذن! (1)

"عبد الناصر" كان رجلاً شريفًا ذا تطلّعات عظيمة

طلب مني موقع “بص وطل” أن أشارك بقلمي في ملفات ذكرى ثورة يوليو؛ لكن ظروفي الخاصة لم تكن تسمح بالمشاركة، وقدّرت على كل حال أن معظم الملف سيكون مخصصًا للهجوم على “عبد الناصر”، وإثبات أننا صرنا أسوأ بعد ثورة يوليو.. لا يمكن أن يتم الأمر بشكل مختلف.. عندما رجعت للملف وجدت أن ما توقعته صحيح في أغلبه، ووجدت أن عليّ قول كلمتين حتى لا أختنق.. كلمتين ستجلبان على رأسي الكثير من الهجوم والسخط، مع التعليق المعتاد “لن أقرأ لك حرفًا بعد اليوم” والتعليق الأشهر “لقد صُدمت فيك وأخيرًا عرفت حقيقتك” والتعليق الأكثر شيوعًا “أنت مؤامرة على عقول شباب هذه الأمة” أو “خليك في القصص اللي إنت بتفهم فيها”؛ ليكن.. هم سيقولون رأيهم حتى لا يختنقوا وأنا سأفعل أيضًا، وإن كانت التعليقات المهذبة ستغريني بالنقاش.

دائمًا يقع الناس في الخطأ الشهير، إنهم يعتقدون أن ثورة يوليو مستمرة.. في الحقيقة ثورة يوليو انتهت فعلاً عام 1971، وما نحن فيه اليوم هو نتيجة الثورة المضادة، نحن نعيش نتيجة أربعين عامًا من هدم روح يوليو، والمشي بالضبط عكس ما أراد “عبد الناصر”.. عندما أُنشئ مصنعًا لإنتاج العطور ثم يأتي أحدهم ليهدمه ويحوّله إلى مقلب قمامة؛ فهل يُعقل بعد أعوام أن يأتي من يقول إن مصنع العطور كان فكرة فاشلة، والدليل أنه لم يُنتج زجاجة عطر واحدة؟ والدليل كذلك أن عُمّاله جياع يتسوّلون؟

هذا هو ما حدث بالضبط في رأيي..
الخطأ الشهير الثاني هو الخلط بين “عبد الناصر” وثورة يوليو.. لا شك أن ثورة يوليو أرست بالفعل حكم العسكر، بحيث صار أول جندي يصحو من النوم هو من يحكم؛ لكن أول من جاءت به ثورة يوليو كان مخلصًا أمينًا.. وكان يحب هذا البلد فعلاً.. رجل مات مدينًا وأخذ قرضًا من الحكومة من أجل زواج ابنته، ولم يكن يعرف من مباهج الحياة سوى الخبز والجبن الأبيض، حتى أنه سبب حرجًا بالغًا لمن حوله أكثر من مرة عندما لم يعرف طائر الفيزان الفاخر الذي يقدّم في المآدب، أو يسمع عن الكافيار، أو يزر الريفيرا.

يحتفظ التاريخ بصورة قاسية للحقد تبلغ أوضح صورة لها في قيام الملك “شارل الثاني” باستخراج جثة “أوليفر كرومويل” من قبره، وشنقها لمدة أسبوع!.. كان ينتقم لمصرع أبيه “شارل الأول” بسبب كرومويل..

بذكائه الحاد أدرك محمد حسنين هيكل أن مصيرًا مماثلاً يوشك أن يحدث لجمال عبد الناصر بعد أسابيع من وفاته، برغم أنه لم يقتل أحدًا، وبالفعل كانت أطراف عديدة تستجمع أنفاسها لتطفئ تاريخ الرجل وكفاحه؛ فلم تمض إلا أسابيع حتى صارت كراهية “عبد الناصر” موضة.. وصار من الصعب أن تمتدح الرجل وسط مجموعة من الأذكياء العالمين ببواطن الأمور قبل أن يسخر أحدهم من سذاجتك ويتّهمك بالحماقة.. أو يقول لك “تعال نتناقش”.. ثم خلال ثوان يعلو صراخه ويتطاير لعابه في وجهك.. هناك ظاهرة مهمة في أعداء “عبد الناصر” هي أن صوتهم عالٍ ولعابهم غزير جدًا، وهم قادرون على إحداث أكبر قدر من الضوضاء في أية لحظة.

نشأت أنا في بيت يحب “عبد الناصر” جدًا، وكانت هذه النظرة عاطفية في أحيان كثيرة تفتقر إلى الموضوعية، ولا أُنكر أنني عندما كبرت عرفت أشياء، وبدأت أفرّق بين “عبد الناصر” والناصرية.. وأدركت أنني منحاز إلى الأخيرة أما الأول فلم يكن معصومًا.. كانت أخطاؤه كثيرة؛ لكن شاعرنا أحمد فؤاد نجم لخّص الموقف ببلاغة (وهو في معتقل “عبد الناصر”):

 

عمل حاجات معجزة وحاجات كثير خابت 

وعاش ومات وسطنا على طبعنا ثابت 

وان كان جرح قلبنا كل الجراح طابت 

ولا يطولوه العدا مهما الأمور جابت

هذه الأبيات تمتّ طبعًا لعقدة الأب الذي يعرف كل شيء ومهما ضربَنا فهو على حق، وقد جرّبها السوفييت عند وفاة “ستالين”.. في قصة “ذوبان الثلوج” لـ”إيليا إهرنبورج” يبكي فيها المعتقلون في سيبريا عندما عرفوا بوفاة “ستالين” الذي زجّهم في السجون؛ لأنهم شعروا بأنه الأب الذي عاقبهم؛ لكنهم لا يريدون له أن يموت.
معرفتي بهذا لم تنزع من نفسي احترامي الشديد للرجل. لقد أنجز كثيرًا وحاول وأخفق كثيرًا أيضًا.. لكن قلبه ظلّ دومًا في المكان الصحيح.

 ولما مات “عبد الناصر” انهمر فوق رءوسنا سيل من الكتب والمقالات التي تُدين الرجل وعصره وتحوّله إلى شيطان رجيم، وفي الخلفية تسمع صوت السادات يقول بطريقة درامية: “الله يرحمه!”.. بطريقة ذكّرت “أحمد بهاء الدين” بعبارة “أنطونيو” الشهيرة: “لكن بروتوس رجل شريف!”، أي أنه يقصد بالضبط عكس ما يقول..

المهم أن كل شهود العصر هؤلاء قابلوا “عبد الناصر” وجلسوا معه حسب كلامهم، حتى “اعتماد خورشيد” التي قالت: إن “عبد الناصر” كان يجلس معها ويسألها النصح في مشاكل الدولة!. أما أعتى من هاجموا “عبد الناصر” فكانوا “الإخوان المسلمين” الذين اصطدموا معه صدامًا عنيفًا.. طرفان طامحان للحكم كان لا بد أن يتصادما بعنف، وبالتأكيد لاقى بعض الإخوان عذابًا لا يوصف في معتقلات “عبد الناصر”.. هل كان “عبد الناصر” يعلم بذلك؟.. نظرية الحاكم العادل الذي لا يعلم بجوْر أتباعه تُناسب فيلم “طباخ الرئيس”؛ لكنها سخيفة جدًا. بالتأكيد كان يعلم بوجود تعذيب لكنه -في رأيي- لم يكن يعلم حجمه الحقيقي.

توقّع “الإخوان المسلمون” من “عبد الناصر” أن يلعب دور الواجهة ويتلقى التعليمات منهم؛ لكنه -ببساطة- أراد أن يحكم كذلك!.. لما مات الرجل وخرج من كان منهم في معتقلاته، وعاد من كان منهم في السعودية، صارت مهمّتهم تشويه سمعة الرجل وتحويله لشيطان، وهذا ناسب السادات جدًا. ومنذ أعوام قليلة قرأنا لمؤرخ إخواني شهير أن “عبد الناصر” عندما أجرى جراحة الزائدة كان على علاقة آثمة في المستشفى مع ممرضة وأنجب منها طفلاً غير شرعي!.. السؤال هو: متى تمّ هذا؟ قبل الجراحة والزائدة توشك على الانفجار، أم أثناءها وهو مخدَّر، أم بعدها والخيوط تملأ بطنه؟؟؟

انضمّت لـ”الإخوان” مجموعة أخرى:
1- أصحاب الرأي فعلاً، الذين لديهم أسباب منطقية واضحة لكراهية عهد الرجل، وهؤلاء يمكن السماع لهم والاستفادة منهم، لكن صوتهم – كأي صوت عقلاني منطقي- خفيض.
2- المتضررون من الثورة فعلاً، أولئك الذين صودرت أملاكهم أو ضاع نفوذهم. وهؤلاء يمكن فهم دوافعهم واحترامها.
3- معدومو الموهبة الذين لم يظفروا بفرصة ثقافية في العصر السابق الذي شهد ظهور قمم فكرية حقيقية. لقد جاء الوقت ليسيطروا على الحركة الفكرية في مصر، ولن أذكر أسماء لأنهم يحترفون رفع القضايا.
4- الأذكياء الذين عرفوا اتجاه الريح وعرفوا أنهم سيكونون السادة في العصر المقبل لو لعبوا بحذر.
5- المدّعون: وهم الذين يشتمون “عبد الناصر” ليوحوا بأنهم من علية القوم أو ذوي الأملاك.. تضع السيدة ساقًا على ساق وتقول في خنافة وهي تنفث دخان السيجارة: “المصانع بتاعتنا اللي العسكر صادروها”. تلقائيًا يشعر من يهاجم “عبد الناصر” بأنه أرستقراطي وليس فلاحًا مثلنا، نحن الذين أخذتنا الثورة من وراء الجاموسة لتجعلنا محامين وأطباء.
6- الحمقى: عندما مات “عبد الناصر” كنت أسمع الرجل يشتمه فأسأله عن السبب فلا يعرف.. لقد وضع “السادات” رجلَ الشارع في حالة فكرية تجعله يشعر بأن عليه كراهية “عبد الناصر” دون أن يعرف السبب.

كانت الحملة شرسة لدرجة أنه بمجرد أن مات “عبد الناصر” طالب كثيرون بهدم السد العالي! لقد شُفِي مجتمعنا من “عبد الناصر” وحكمه ونحن في حالة غسيل مستمرة منذ عام 1971 لكل آثاره.. وبيع كل شيء كان يفخر به أو تبديده، والسؤال هو: هل صرنا رائعين حقًا؟..

عندما تتأمل تجربة “عبد الناصر” ككل تجد أمامك رجلاً شريفًا ذا تطلّعات عظيمة، وحتى بعد أربعين عامًا من وفاته ما زال كُتّاب لا يحملون له أية مودة مثل “فهمي هويدي” و”د.جلال أمين” يعترفون بأنه كان بعيد النظر في أمور كثيرة.. سياسته الأفريقية الناجحة لم تكن تهدف إلا لتأمين ماء النيل ومنع تسلل إسرائيل إلى المنابع، ونحن ندفع ثمن توقّف هذه السياسة اليوم. لم يكن هناك تضخّم.. هناك كتاب كل ساعتين، سد عال، صناعات ثقيلة، نهضة كاسحة للأزهر جعلت الطلاب المسلمين الأجانب يعتبرون مصر قلب العالم الإسلامي، مشاريع حرب بيولوجية ونووية، الشاب يجد عملاً ومسكنًا، هيبة واضحة بين دول العالم، مصر مركز مهمّ في قلب الدائرة الأفريقية والعربية والإسلامية، وحدة وطنية حقيقية بين الهلال والصليب، معدّل نمو غير مسبوق كما وصفه “د. جلال أمين” عالم الاقتصاد البارز.. هل أنت متأكد من أنني أصف نظامًا فاشلاً؟.. يبدو لي أن هذا قريب جدًا من تعريف النجاح.

في المقال القادم أقدّم لك عرضًا لكتاب مهم جدًا، لكن من الواضح أن أحدًا من الشباب لم يجده قط ليقرأه، هو كتاب “لمصر لا لعبد الناصر” الذي يردّ به هيكل على طوفان التشكيك في الرجل، وهو أقدر مني على الرد.
المشكلة هي أننا في عصر اختلطت فيه الأمور، وتحوّل من ماتوا إرهاقًا من أجل أمتهم إلى زُناة ينتهزون أية فرصة تسنح لهم في المستشفيات.. بينما من باعوا الوطن فعلاً يجدون من يتنمّر في الدفاع عنهم، وهذا يعطينا فكرة بسيطة عما نفعله بأبطالنا.. ولا حول ولا قوة إلا الله..

 

اعلان