Dp جلد ذات أم إصلاح للمجتمع؟.. سؤال حائر!
الرئيسية > سياسة > مقالات رأي > جلد ذات أم إصلاح للمجتمع؟.. سؤال حائر!

جلد ذات أم إصلاح للمجتمع؟.. سؤال حائر!

هناك منطقة وسط يمكن أن نتجه إليها، فلا نقع في فخ الرفض المطلق للنقد وإقناع أنفسنا بأن كافة الأمور على ما يرام،

منذ مباراة مصر والجزائر وهناك حملة عبر الصحف والبرامج التليفزيونية سواء على المحطات المحلية أو الفضائية؛ تُطالب بأن يتوقف الإعلام عن انتقاد السلبيات في مصر، سواء أكانت هذه السلبيات في أداء الحكومة، أو سلبيات في تصرفات الشعب؛ والسبب وراء قيام هذه الحملة أن كثيراً من الأقلام الخارجية تجرأت على انتقاد مصر بالعيوب التي يُظهرها أبناؤها، ومعايرة أبناء مصر بها..

 والحقيقة أن هذه الحملة لاقت الكثير من التأييد والمعارضة على حد سواء؛ ففي الوقت الذي رحّب به الكثيرون من المسئولين بالحكومة بالفكرة خاصة الصحفيين بالصحف القومية، كانت صحف المعارضة والناشطون السياسيون الأعلى صوتًا في الرفض..

وكان لكل مِن الفريقين حجج مقنعة يدللون بها على آرائهم..

فالفريق الأول: يرى أن المبالَغة في النقد خرجت عن فكرة نقد الذات، وشجعت الآخرين على الاجتراء على مصر وشعبها وحكومتها، كما يرون أن المنتقدين ينتقدون السلبيات فقط دون إظهار الإيجابيات، وأنهم يُظهرون صورة الوطن سوداء قاتمة، مما يسيء إلى سمعة مصر.

أما الفريق الثاني: فلا يرون أن للدولة سُمعة ليُساء إليها، بل لها مقومات يجب أن تتوفر لتعلوا وترتفع، ولذلك فإنهم يصرون على أن نقد الذات وإظهار العيوب هو السبيل الوحيد لحلها؛ لأن دفن الرؤوس في التراب -كالنعام- لن يؤدي إلى أي إصلاح، ويردون على القائلين بأن نقد الذات يُشجع الآخرين على أن ينتقدونا، بأن من ينتقدوننا لأنهم يريدون إصلاح وطننا لا يملكون الشجاعة الكافية لتوجيه النقد لذاتهم.
 
والفكرة أن هناك فرقاً كبيراً بين: “جلد الذات السلبي، ونقد الذات الإيجابي”؛ حيث يُعرّف الباحث والكاتب “سعيد محمود” كلاً منهما…

فيُعرّف “جلـد الـذات” بأنه:

“شعور سلبي يتنامى دائماً في أوقات الهزائم والإحباطات؛ بسبب مناخ الهزيمة عندما يخيم على الأجواء، بحيث تتوارى النجاحات -والتي غالبا ما تكون قليلة أو باهتة- ويتصدر الفشل واجهة الصدارة. والشعور السلبي المتمثل في جلد الذات ينبع من رغبة دفينة بالتغلب على الفشل، ولكن ليس عن طريق مواجهته وإنما بالهروب منه (أو ما يعرف بالهروب إلى الداخل حيث ينزوي الإنسان ويتقوقع داخل هذا الحيز الضيق من الشعور بالعجز والفشل)، وذلك لعجز الفرد -أو الأمة- عن إدراك مواطن قوته ومواطن ضعفه وأيضاً مواطن قوة وضعف أعدائه أو تحدياته، ويسرف بدلاً من ذلك في تهميش كل قوة له ويعطي لعدوه أو تحدياته قوة أكثر بكثير مما هي عليه في الحقيقة”.
 
بينما يُعرّف “نقد الذات” بأنه:

“شعور إيجابي ناضج يتلمس معرفة مواطن القوة ومواطن الضعف بصدق وموضوعية، أي أنه يقيسها ويقيمها ولا يهمّشها أو يتخيلها. ونقد الذات ليست له أوقات محددة، ولكن له عقليات محددة تجيد قراءة نفسها ومحيطها، وبالتالي لا تخشى مواجهة الأعداء أو التحديات، وإنما تأخذ بأسباب النجاح والوصول إلى الهدف عن طريق التخطيط الجيد والاستفادة من أخطاء الماضي”.

 ومن التعريفين نرى أن هناك منطقة وسط يمكن أن نتجه إليها، فلا نقع في فخ الرفض المطلق للنقد وإقناع أنفسنا بأن كافة الأمور على ما يرام، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، ثم نفاجأ بأن هناك الكثير الذي يحتاج إلى تعديل وإصلاح، ولا نسقط في أزمة تحقير الذات ورؤية الحياة من منظار أسود، فنبتعد بذلك عن الهدف الأساسي للنقد وهو الإصلاح ونتجه إلى إحداث حالة من الإحباط والشعور بأنه لم تعد هناك أي إمكانية للخروج من المأزق.

 وقد تصدّر الكاتب والمفكر الكبير عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- لهذه المشكلة سابقًا؛ فتكلّم عن أزمة المثقفين في نقد العيوب الذاتية بالمجتمع، بل وأزمة المجتمع كله، وفرّق بين: “النقد الذاتي، وكراهية الذات”، قائلاً:

 “المثقفون قسمان؛ الغالبية منهم ينتمون إلى هذه الأمة وينتقدونها بهدف الإصلاح، والأقلية ينتقدونها وكفى، وليس في أذهانهم الإصلاح”.

 فعندما أقول مثلاً: “القاهرة مدينة قذرة، أقول وأنا آمل أن تكون نظيفة، أما الآخر العنصري فيقول إن القاهرة مدينة قذرة؛ لأن العرب قذرون بطبيعتهم، وأعتقد أن نقد معظم المثقفين العرب لمجتمعاتهم وسلبياتها ليس نابعًا من كره الذات”.

 ونجد أن الدين قد تصدر لفكرة نقد الذات؛ فالمفكر والكاتب الإسلامي “زين العابدين الركابي” قد قال عن فكرة النقد الذاتي في الإسلام:

 “ففي القرآن نقد وتصويب لسلوك المسلمين الأوائل.. ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}.. فمن مضامين هذه الآية: أن يوجه المسلمون النقد والتصويب إلى أنفسهم قبل كل شيء.. وهذا (منهج عملي)، بمعنى أنه إذا صح البناء الذاتي، فإن أمر التحديات الخارجية يهون أو يتراجع كثيرا. كما توجد آية تقول: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}؛ أي النفس التي تنتقد ذاتها وتلومها دوماً.. نقل ابن كثير عن الحسن البصري قوله في تفسير هذه الآية السابقة: (إن المؤمن والله لا نراه إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قدمًا قدمًا ما يًعاتب نفسه). وفي القرآن منهج كامل في (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والأمر والنهي يتضمنان -بالضرورة- نقداً وتصويباً، إذ إن الموضوع يتعلّق -ها هنا- بوجود (خطأ ما) ينبغي نقده وتقويمه وتصويبه.. ويمكن القول: إن الخطأ هو (المنكر)، وإن (الأمر بالمعروف) هو التصويب البديل، أو النقد الإيجابي”.

 ولذلك فإن هذه الحملات التي تطلب أن نتوقف عن أي نقد؛ خوفًا من أن يرتد هذا النقد إلى صدورنا كمعايرة، أن توجه جهودها للتعريف بالفرق بين النقد الإيجابي الذي يُصلح المجتمع، والنقد السلبي الذي يُمسك بمعول ليهد الكثير دون أن نضع رؤوسنا في التراب.

 

 

اعلان